لي زميل أكاديمي - وقاك الله شَرَّ الكدمات - تعلَّم في بلاد الإفرنج, ونَهَل من لغة العلوج, فافْتُتن بها وانْبَهر, ونَسِي - بل تناسَى - أصلَه ولغته, فتراه كلَّما تكلَّم في اجتماع جامعي, رَطن بلغة الإنجليز، وخَلط ركاكته العربيَّة بكثيرٍ من فصاحته الإنجليزية؛ تعاليًا على زُملائه, واستخفافًا بِمَن لا يُتقن الإنجليزية منهم، وجَرْيًا وراء أولياء نعمته الذين انتشلوه من ظُلمات الجهل وطمَّتِه، إلى نور العلم وسَعَته.
وهو لا يَني في اتهام العربية بكلِّ قصور، واتِّهام مناهجها بالعُسر والاستعصاء على الفَهم، ويُطالب بتدريس كلِّ العلوم والآداب والفنون بالإنجليزيَّة، حتى لقد قلتُ له مرة: لو أُسند إليك تدريس العربية لدرَّستها بالإنجليزيَّة، فهزَّ رأْسَه مستنكرًا؛ لأنه لا يعرف العربيَّة، ولا يريد أن يعرفَها، ولا يطيب له أن يعرفَها!
على أن زميلي هذا - والإنصاف شريعة - أُوتي خِفَّة في الرُّوح، وظرفًا في الكلام، وبديهة حاضرة مُسْعفة، جعلتْه يَسْخر ممن حوله، دون أن يرعى في أحدٍ إلاًّ ولا ذِمَّة، غافلاً أو مُتغافلاً عن أنَّ المولى الجليل - عزَّ في علاه - نَهَى عن هذا أشدَّ النهْي؛ حيث قال في مُحكم كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
ويُمعن هذا الزميل في كِبره وتَعَاليه، فتراه يتشاغَل حين يتكلَّم غيرُه بجوَّال في يده، أو بجريدة إلى جانبه، دون أن يراعي أَدنى درجات أدبِ الحديث الذي رضعناه مع لبان أُمَّهاتنا، بل دون أن يراعي أدنى حدود الذوق وفَنِّ "الإتكيت"، الذي يُفْتَرض أنه قد رَضَعه مع لبان اللغة الإنجليزيَّة التي تأدَّب بها وبأهْلها.
سألني مرة - طلبًا للاستظراف، وإمعانًا في الاستخفاف - عن معنى لقبي (الطيَّان)، فأعادني أربعين سنة إلى الوراء أو أكثر، حين كان بعض أهل الرعونة من أترابي في المدرسة يُعيِّرونني بلَقَبي، فينهرهم المعلم أشدَّ النهْر، ويزجرهم عن غَيِّهم؛ حتى يعودوا إلى الرشد، بل إنَّ أحد المعلِّمين - والله على ما أقول شهيد - نَهَى التلاميذ عن أن ينادوني باسمي أو لَقَبي - إكرامًا لي وتقديرًا لاجتهادي - وكَنَّاني: "بأبي رضوان"، فبات أصحابي لا ينادونني إلا بهذه الكُنْية على مذهب الشاعر العربي؛ حيث يقول:
أَكْنِيهِ حِينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَهُ
وَلاَ أُلَقِّبُهُ وَالسَّوْءَةَ اللَّقَبَا
كَذَاكَ أُدِّبْتُ حَتَى صَارَ مِنْ خُلُقِي
إِنِّي وَجَدْتُ مِلاَكَ الشِّيمَةِ الأَدَبَا
|
وأردتُ أن أُلقِّن هذا الزميل درسًا في ثراء العربية وَسَعتها، وجمال تصرُّفها، فقلتُ: إن معنى (الطيان) الذي يعرفه كلُّ الناس، ولا يجهله مَن كانتْ عنده أدنى مسكة من فَهم، هو الذي يعمل في الطين، والطين أصل الإنسان الذي إنْ نَسِيه تاه وعَرْبد، وطَغَى وفَجَر، وبَغَى واستكْبَرَ، وقد نبَّه ربُّ العِزَّة - جل وعلا - مَن استعْلَى على هذا الأصل؛ حيث قال - جل من قائل -: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ﴾ [الصافات : 11 - 13].
وأشار إلى ذلك شاعرنا المهجري إيليا أبو ماضي:
نَسِي الطِّينُ سَاعَةً أَنَّهُ طِي
نٌ حَقِيرٌ فَصَالَ تِيهًا وَعَرْبَدْ
وَكَسَا الْخَزُّ جِسْمَهُ فَتَبَاهَى
وَحَوَى الْمَالُ كِيسَهُ فَتَمَرَّدْ
يَا أَخِي لاَ تَمِلْ بِوَجْهِكَ عَنِّي
مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلاَ أَنْتَفَرْقَدْ
|
ثم تابعتُ قائلاً: أما الذي لا تعرفه أنت ولا أمثالك ممن استخفَّهم بريقُ الإنجليزية، وجَهِلوا لُغتهم، وتبرَّؤوا من عروبتهم - فهو أن (الطيان) صيغة مبالغة من "طَوى يَطْوي طيًّا"، إذا لم يأكلْ شيئًا، وهي صفة حميدة طَالَما تغنَّت العرب بها؛ لأنها غالبًا ما تلصق بالكريم الذي يُطْعِم غيرَه، ويؤْثِره على نفسه، ويَبيت طيّان؛ أي: طاوي البطن، لا زادَ في بطنه؛ قال ابن شُهيد الأندلسي:
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا نَالَتْهُ مَخْمَصَةٌ
أَبْدَى إِلَى النَّاسِ شِبْعًا وَهْوَ طَيَّانُ
|
وقال ابن نُباتة السعدي:
طَيَّانَ أَبْذُلُ لِلصَّدِيقِ مَدَائِحِي
وَأَصُونُ عَنْ عِرْضِ الْعَدُوِّ سِبَابِي
|
وقال أبو العلاء المعرِّي:
طَالَ صَبْرِي فَقِيلَ أَكْثَمُ شَبْعَا
نُ وَإِنِّي لَمُنْطَوٍ طَيَّانُ
|
وقالت العوراء الذبيانية:
طَيَّانَ طَاوِي الْكَشْحِ لاَ
يُرْخَى لِمَظْلَمَةٍ إِزَارُهْ
يَعْصِي الْبَخِيلَ إِذَا أَرَا
دَ الْمَجْدَ مَخْلُوعًا عِذَارُهْ
|
ثم ختمتُ قائلاً:
ولك أن تضيفَ معنًى ثالثًا لهذه الكلمة، وذلك بأن تُثَنِّي كلمة (طيّ)، وهي مصدر الفعل "طوى يطوي"، فتقول: هذا طيٌّ، وهذان طيَّانِ، وما أجمل الطيَّ في رائعة ابن الفارض:
سَائِقَ الأَظْعَانِ يَطْوِي الْبِيدَ طَيّْ
مُنْعِمًا عَرِّجْ عَلَى كُثْبَانِ طَيّْ
|
وبعدُ:
فهذه لغة العرب التي جافيتَها، فارجعِ البصر، هل ترى فيها من فطور؟ ثم ارجع البصر كرَّتين، ينقلبْ إليك البصر خاسئًا وهو حسير، ولتعلمْ أنَّ المرءَ مَهْمَا تعلَّم، فهو بحاجة إلى المزيد، وما تعلَّمتُ مسألةً، إلاَّ ازددتُ عِلْمًا بِجَهْلي.
فَقُلْ لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْعِلْمِ مَعْرِفَةً
عَرَفْتَ شَيئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ
|
وإذا أنت لم تَعِ ذلك كله - وما إخالك واعِيَه - فليس لك عندي إلا ما قال مهيار الديلمي:
وَإِلاَمَ طُولُ رِضَايَ بِالْمَيْسُورِ مِنْ
حَظِّي وَفَرْطُ تَعَفُّفِي وَتَقَنُّعِي
طَيَّانَ أَبْغِي الرِّفْدَ بَيْنَ مَعَاشِرٍ
حُبُّ العُلاَ فِي طِينِهِمْ لَمْ يُطْبَعِ
|
هناك تعليق واحد:
جزاكن الله خيرا على هذه المقالة الرائعة في فضل العربية التي هجرها أبناؤها.
إرسال تعليق